فصل: سنة ست ومائتين وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة ست ومائتين وألف:

استهل شهر محرم بيوم الأربعاء، وفيه عينوا صالح آغا كتخدا الجاويشية الى السفر الى الديار لرومية وصحبته هدية وشربات وأشياء، وصالح آغا هذا هو الذي بعثوه قبل ذلك لإجراء الصلح على يد نعمان أفندي ومحمود بك، وكاد أن يتم ذلك، وأفسد ذلك حسن باشا، ونفي نعمان أفندي بذلك السبب وذلك قبل موت حسن باشا بأربعة أيام فلما رجعوا الى مصر في هذه المرة عينوه أيضاً للإرسالية لسابقته ومعرفته بالأوضاع وكان صالح آغا هذا عندما حضروا الى مصر سكن ببيت البارودي، وتزوج بزوجته فلما كان خامس المحرم ركب الأمراء لوداعه ونزل من مصر القديمة.
وفيه هبط النيل ونزل مرة واحدة وذلك في أيام الصليب ووقف جريان الخليج والترع، وشرقت الأراضي فلم يرو منها إلا القليل جداً فارتفعت الغلال من السواحل والرقع، وضجت الناس وأيقنوا بالقحط وأيسوا من رحمة الله، وغلا سعر الغلة من ريالين الى ستة وضجت الفقراء وعيطوا على الحكام فصار الآغا يركب الى الرقع والسواحل ويضرب المتسببين في الغلة ويسمرهم في آذانهم، ثم صار ابراهيم بك يركب الى بولاق ويقف بالساحل وسعر الغلة بأربعة ريال الأردب، ومنعهم من الزيادة على ذلك فلم ينجح وكذلك مراد بك كرر الركوب والتحريج على عدم الزيادة فيظهرون الامتثال وقت مرورهم، فإذا التفتوا عنهم باعوا بمرادهم وذلك من كثرة ورود الغلا ودخول المراكب وغالبها للأمراء وينقلونها الى المخازن والبيوت وفي أوائل صفر، وصل قاصد وعلى يده مرسوم بالعفو والرضا عن الأمراء فعملوا الديوان عند الباشا وقرأوا المرسوم وصورة ما بنى عليه ذلك أنه لما حضر السيد عمر أفندي بمكاتبتهم السابقة الى الباشا يترجون وساطته في إجراء الصلح، أرسل مكاتبة في خصوص ذلك من عنده وذكر فيها أن من بمصر من الأمراء لا طاقة لهم بهم ولا يقدرون على منعهم ودفعهم، وأنهم واصلون وداخلون على كل حال فكان هذا المرسوم جواباً عن ذلك وقبول شفاعة الباشا والإذن لهم بالدخول بشرط التوبة والصلح بينهم وبين إخوانهم، فلما فرغوا من قراءة ذلك ضربوا شنكاً ومدافع.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر حضر الشيخ الأمير الى مصر من الديار الرومية ومعه مرسومات خطاباً للباشا والأمراء فركب المشايخ ولاقوه من بولاق وتوجه الى بيته، ولم يأت للسلام عليه أحد من الأمراء وأنعمت عليه الدولة بألف قرش ومرتب بالضربخانة في كل يوم وقرأ هناك البخاري عند الآثار الشريفة بقصد النصرة.
وفي شهر ربيع الأول، عمل المولد النبوي بالأزبكية، وحضر مراد بك الى هناك واصطلح مع محمد أفندي البكري وكان منحرفاً عنه بسبب وديعته التي كان أودعها عنده، وأخذها حسن باشا فلما حضر الى مصر وضع يده على قرية كان اشتراها الأفندي من حسن جلبي بن علي بك الغزاوي وطلب من حسن جلبي ثمن القرية الذي قبضه من الشيخ ليستوفي بذلك بعض حقه، وطال النزاع بينهما بسبب ذلك، ثم اصطلحا على قدر قبضه مراد بك منهما، وحضر مراد بك الى الشيخ في المولد وعمل له وليمة واستمر عنده حصة من الليل وخلع على الشيخ فروة سمور.
وفيه عملوا ديواناً عند الباشا وكتبوا عرضحال بتعطيل الميري بسبب شراقي البلاد.
وفيه سافر محمد بك الألفي الى جهة شرقية بلبيس.
وفيه حضر ابراهيم بك الى مسجد أستاذه للكشف عليه وعلى الخزانة وعلى ما فيها من الكتب ولازم الحضور إليه ثلاثة أيام وأخذ مفتاح الخزانة من محمد أفندي حافظ وسلمه لنديمه محمد الجراحي، وأعاد لها بعض وقفها المرصد عليها بعد أن كانت آلت الى الخراب ولم يبق بها غير البواب أمام الباب.
وفي شهر ربيع الثاني، قرروا تفريدة على تجار الغورية وطيلون وخان الخليلي وقبضوا على أنفار أنزلوهم الى التكية ببولاق ليلاً في المشاعل، ثم ردوهم ووزع كبار التجار ما تقرر عليهم على فقرائهم بقوائم وناكد بعضهم بعضاً وهرب كثير منهم فسمروا دورهم وحوانيتهم وكذلك فعلوا بكثير من مساتير الناس والوجاقلية وضج الخلائق من ذلك.
وفي مستهل جمادى الأولى كتبوا فرماناً بقبض مال الشراقي ونودي به في النواحي وانقضى شهر كيهك القبطي ولم ينزل من السماء قطرة ماء فحرثوا المزروع ببعض الأراضي التي طشها الماء وتولدت فيها الدودة وكثرت الفيران جداً حتى أكلت الثمار من أعلى الأشجار، والذي سلم من الدودة من الزرع أكله الفار ولم يحصل في هذه السنة ربيع للبهائم إلا في النادر جداً، ورضي الناس بالعليق فلم يجدوا التبن وبلغ حمل الحمار من قصل التبن الأصفر الشبيه بالكناسة الذي يساوي خمسة أنصاف، قبل ذلك مائة نصف، ثم انقطع مرور الفلاحين بالكلية بسبب خطف السواس واتباع الأجناد، فصار يباع عند العلافين من خلف الضبة كل حفان بنصفين الى غير ذلك.
وفي حضر صالح آغا من الديار الرومية.
وفي شهر شوال، سافر أيضاً بهدية ومكاتبات الى الدولة ورجالها.
وفي شهر القعدة وردت الأخبار بعزل الصدر الأعظم يوسف باشا وتولية محمد باشا ملكاً وكان صالح آغا قد وصل الى الإسكندرية فغيروا المكاتبات وأرسلوها إليه.
وفيه حضر آغا بتقرير لوالي مصر على السنة الجديدة وطلع بموكب الى القلعة وعملوا له شنكاً.
وفي أواخر شهر الحجة شرع ابراهيم بك في زواج ابنته عديلة هانم للأمير ابراهيم بك المعروف بالوالي أمير الحج سابقاً وعمر لها بيتاً مخصوصاً بجوار بيت الشيخ السادات، وتغالوا في عمل الجهاز والحلي والجواهر وغير ذلك من الأواني والفضيات والذهبيات وشرعوا في عمل الفرح ببركة الفيل، ونصبوا صواري أمام البيوت الكبار وعلقوا فيها القناديل، ونصب الملاعيب والملاهي أرباب الملاعيب وفردت التفاريد على البلاد، وحضرت الهدايا والتقادم من الأمراء والأكابر والتجار، ودعا ابراهيم بك باشا، فنزل من القلعة وحضر صحبته خلع وفراً ومصاغ للعروس من جوهر وقدم له ابراهيم بك تسعة عشر من الخيل، منها عشرة معددة وسجة لؤلؤ وأقمشة هندية وشبقات دخان مجوهرة وعملوا الزفة في رابع المحرم يوم الخميس، وخرجت من بيت أبيها في عربة غريبة الشكل صناعة الإفرنج في هيئة كمال من غير ملاعيب ولا خزعبلات والأمراء والكشاف وأعيان التجار مشاة أمامها.
وفيه حضر عثمان بك الشرقاوي وصحبته رهائن حسن بك الجداوي وهم شاهين بك وسكن في مكان صغير وآخرون.
وفيه وصلت الأخبار بأن علي بك انفصل من حسن بك ومن معه وسافر على جهة القصير وذهب الى جدة.

.من مات في هذه السنة ممن له ذكر:

مات الإمام الذي لمعت أفق الفضل بوارقه وسقاه من مورده النمير عذبه ورائقه، لا يدرك بحر وصفه الإغراق ولا تلحقه حركات الأفكار ولو كان لها في مضمار الفضل، السباق العالم النحرير واللوذعي الشهير شيخنا العلامة أبو العرفان الشيخ محمد بن علي الصبان الشافعي ولد بمصر وحفظ القرآن والمتون واجتهد في طلب العلم وحضر أشياخ عصره وجهابذة مصره وشيوخه، فحضر على الشيخ الملوي شرحه الصغير على السلم، وشرح الشيخ عبد السلام على جوهرة التوحيد وشرح المكودي على الإلفية وشرح الشيخ خالد على قواعد الإعراب وحضر على الشيخ حسن المدابغي صحيح البخاري بقراءته لكثير منه وعلى الشيخ محمد العشماوي الشفا للقاضي عياض وجامع الترمذي وسنن أبي داود وعلى الشيخ أحمد الجوهري شرح أم البراهين لمصنفها بقراءته لكثير منها وعلى الشيخ السيد البليدي صحيح مسلم وشرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني وتفسير البيضاوي وشرح رسالة الوضع للسمرقندي وعلى الشيخ عبد الله الشبراوي تفسير البيضاوي وتفسير الجلالين وشرح الجوهرة للشيخ عبد السلام وعلى الشيخ محمد الحفناوي صحيح البخاري والجامع الصغير وشرح المنهج والشنشوري على الرجبية ومعراج النجم الغيطي وشرح الخزرجية لشيخ الإسلام وعلى الشيخ حسن الجبرتي التصريح على التوضيح والمطول ومتن الجغميني في علم الهيئة وشرح الشريف الحسيني على هداية الحكمة، قال: وقد أخذت عنه في الميقات وما يتعلق به وقرأت فيه رسائل عديدة، وحضرت عليه في كتب مذهب الحنفية كالدر المختار على تنوير الأبصار وشرح ملا مسكين علي الكنز وعلى الشيخ عطية الأجهوري شرح المنهج مرتين بقراءته لأكثره وشرح جمع الجوامع للحلي وشرح التلخيص الصغير للسعد وشرح الأشموني على الألفية وشرح السلم للشيخ الملوي وشرح الجزرية لشيخ الإسلام والعصام على السمرقندية وشرح أم البراهين للحفصي وشرح الآجرومية لريحان آغا وعلى الشيخ على العدوي مختصر السعد على التلخص وشرح القطب على الشمسية وشرح شيخ الإسلام على ألفية المصطلح بقراءته لأكثره وشرح بن عبد الحق على ابسملة لشيخ الإسلام ومتن الحكم لابن عطاء الله رحمهم الله تعالى أجمعين، قال: وتلقيت طريق القوم وتلقين الذكر على منهج السادة الشاذلية على الأستاذ عبد الوهاب العفيفي المرزوقي وقد لازمته المدة الطويلة وانتفعت بمدده ظاهراً وباطناً، قال: وتلقيت طريق ساداتنا آل وفا سقانا الله من رحيق شرابهم كؤوس الصفا عن ثمرة رياض خلفهم ونتيجة أنوار شرفهم على الأكابر والأصاغر ومطمح أنظار أولي الأبصار والبصائر أبي الأنوار محمد السادات ابن وفا نفحنا الله وإياه بنفحات جده المصطفى وهو الذي كناني على طريقة أسلافه بأبي العرفان وكتب لي سنده عن حاله السيد شمس الدين أبي الإشراق عن عمه السيد أبي الخير عبد الخالق عن أخيه السيد أبي الإرشاد يوسف عن والده الشيخ أبي التخصيص عبد الوهاب عن ولد عمه السيد يحيى أبي اللطف الى آخر السند، هكذا نقلته من خط المترجم رحمه الله تعالى، ولم يزل المترجم يخدم العلم ويدأب في تحصيله حتى تمهر في العلوم العقلية والنقلية وقرأ الكتب المعتبرة في حياة أشياخه، وربى التلاميذ واشتهر بالتحقيق والتدقيق والمناظرة والجدل وشاع ذكره وفضله بين العلماء بمصر والشام، وكان خصيصاً بالمرحوم الشيخ الوالد اجتمع به من سنة سبعين ومائة وألف ولم يزل ملازماً له على حبه ومودته مع الحقير وانضوى الى أستاذنا السيد أبي الأنوار بن وفا ولازمه ملازمة كلية وأشرقت عليه أنواره ولاحت عليه مكارمه وأسراره، ومن تآليف حاشيته على الأشموني التي سارت بها الركبان وشهد بدفتها أهل الفضائل والعرفان وحاشية على شرح العصام على السمرقندية وحاشية على شرح الملوي على السلم ورسالة في علم البيان ورسالة عظيمة في آل البيت ومنظومة في علم العروض وشرحها ونظم أسماء أهل بدر وحاشية على آداب البحث ومنظومة في مصطلح الحديث ستمائة بيت، ومثلثات في اللغة ورسالة في الهيئة وحاشية على السعد في المعاني والبيان، ورسالتان على البسملة صغرى وكبرى، ورسالة في مفعل ومنظومة في ضبط رواة البخاري ومسلم، وكان في مبدأ أمره وعنفوان عمره معانقاً للخمول والإملاق متكلاً على مولاه الرزاق، يستجدي مع العفة ويستدر من غير كلفة، وتنزل أياماً في وظيفة التوقيت بالصلاحية بضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما جدده عبد الرحمن كتخدا وسكن هناك مدة ثم ترك ذلك، ولما بنى محمد بك أبو الذهب مسجده تجاه الأزهر تنزل المترجم أيضاً في وظيفة توقيتها وعمر له مكاناً بسطحها سكن فيه بعياله فلما اضمحل أمر وقفه تركه واشترى له منزلاً صغيراً بحارة الشنواني وسكن به، ولما حضر عبد الله أفندي القاضي المعروف بططر زاده وكان متضلعاً من العلوم والمعارف وسمع بالمترجم والشيخ محمد الجناحي واجتمعا به أعجب بهما وشهد بفضلهما وأكرمهما، وكذلك سليمان أفندي الرئيس فعند ذلك راج أمر المترجم وأثرى حاله بالملابس وركب البغال وتعرف أيضاً بإسمعيل كتخدا حسن باشا وتردد إليه قبل ولايته، فلما أتته الولاية بمصر زاد في إكرامه وأولاه بره ورتب له كفايته في كل يوم بالضربخانة والجزية، وخرجا من كلاره من لحم وسمن وأرز وخبز وغير ذلك وأعطاه كساوي وفراء وأقبلت عليه الدنيا وازداد وجاهة وشهرة وعمل فرحاً وزوج ابنه سيدي علي فأقبل عليه الناس بالهدايا وسعوا لدعوته وأنعم عليه الباشا بدراهم لها صورة، وألبس ابنه فروة يوم الزفاف وكذا أرسل إليه طبلخانته وجاويشيته وسعاته فزفوا العروس وكان ذلك في مبادئ ظهور الطاعون في العام الماضي وتوعك الشيخ المترجم بعد ذلك بالسعال وقصبة الرئة، حتى دعاه داعي الأكام وفجأة الحمام ليلة الثلاثاء من شهر جمادى الأولى من السنة، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالبستان تغمده الله بالرحمة والرضوان وخلف ولده الفاضل الصالح الشيخ علي بارك الله فيه. له عنه عندما جدده عبد الرحمن كتخدا وسكن هناك مدة ثم ترك ذلك، ولما بنى محمد بك أبو الذهب مسجده تجاه الأزهر تنزل المترجم أيضاً في وظيفة توقيتها وعمر له مكاناً بسطحها سكن فيه بعياله فلما اضمحل أمر وقفه تركه واشترى له منزلاً صغيراً بحارة الشنواني وسكن به، ولما حضر عبد الله أفندي القاضي المعروف بططر زاده وكان متضلعاً من العلوم والمعارف وسمع بالمترجم والشيخ محمد الجناحي واجتمعا به أعجب بهما وشهد بفضلهما وأكرمهما، وكذلك سليمان أفندي الرئيس فعند ذلك راج أمر المترجم وأثرى حاله بالملابس وركب البغال وتعرف أيضاً بإسمعيل كتخدا حسن باشا وتردد إليه قبل ولايته، فلما أتته الولاية بمصر زاد في إكرامه وأولاه بره ورتب له كفايته في كل يوم بالضربخانة والجزية، وخرجا من كلاره من لحم وسمن وأرز وخبز وغير ذلك وأعطاه كساوي وفراء وأقبلت عليه الدنيا وازداد وجاهة وشهرة وعمل فرحاً وزوج ابنه سيدي علي فأقبل عليه الناس بالهدايا وسعوا لدعوته وأنعم عليه الباشا بدراهم لها صورة، وألبس ابنه فروة يوم الزفاف وكذا أرسل إليه طبلخانته وجاويشيته وسعاته فزفوا العروس وكان ذلك في مبادئ ظهور الطاعون في العام الماضي وتوعك الشيخ المترجم بعد ذلك بالسعال وقصبة الرئة، حتى دعاه داعي الأكام وفجأة الحمام ليلة الثلاثاء من شهر جمادى الأولى من السنة، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن بالبستان تغمده الله بالرحمة والرضوان وخلف ولده الفاضل الصالح الشيخ علي بارك الله فيه.
ومات السيد السند الإمام الفهامة المعتمد فريد عصره ووحيد شامه ومصره الوارد من زلال المعارف على معينها المؤيد بأحكام شريعة جده، حتى أبان صبح يقينها السيد العلامة أبي المودة محمد خليل بن السيد العارف المرحوم علي بن السيد محمد بن القطب العارف بالله تعالى السيد محمد مراد بن علي الحسيني الحنفي الدمشقي أعاد الله علينا من بركات علومهم في الدنيا والآخر من بيت العلم والجلاة والسيادة والعز والرياسة والسعادة، والمترجم وإن لم نره لكن سمعنا خبره ووردت علينا منه مكاتبات ووشى طروسه المحبرات، وتناقل إلينا أوصافه الجميلة ومكارم أخلاقه الجليلة، كان شامة الشام وغرة الليالي وأيام أورق عوده بالشام وأثمر ونشأ بها في حجر والده والدهر أبيض وقرأ القرآن على الشيخ سليمان الديركي المصري وطالع في العلوم والأدبيات واللغة التركية والإنشاء والتوقيع ومهر وأنجب واجتمعت فيه المحاسن الحسية والمزايا المعنوية مع ألطف خلق يسعى اللطف لينظر إليه ورقيق محاسن يقف الكمال متحيراً لديه وأنا وإن لم يقع لي عليه نظر بالعين فسماع الأخبار إحدى الروايتين، ولما توفي والده المرحوم تنصب مكانه مفتي الحنفية بالديار الشامية ونقيب الأشراف بإجماع الخاص والعام وسار فيها أحسن سير وزين بمآثره العلوم النقلية وملك بنقد ذهنه جواهرها السنية فكانت تتيه به على سائر البقاع بقاع الشام ويفتخر به عصره على جميع الليالي والأيام فلاتزال تصدح ورق الفصاحة في ناديها وتسير الركبان بما فيه من المحاسن رائحها وغاديها ونور فضله باد وموائده ممدودة لكل حاضر وباد، وكان رحمه الله مغرماً بصيد الشوارد وقيد الأوابد واستعلام الأخبار وجمع الآثار وتراجم العصرين على طريق المؤرخين وراسل فضلاء البلدان البعيدة ووصلهم بالهدايا والرغائب العديدة والتمس من كل جمع تراجم أهل بلاده وأخبار أعيان أهل القرن الثاني عشر يحسب وسع همته واجتهاده وكان هو السبب الأعظم الداعي لجمع هذا التاريخ على هذا النسق فإنه كان راسل شيخنا السيد محمد مرتضى والتمس منه نحو ذلك فأجابه لطلبته ووعده بأمنيته، فعند ذلك تابعه بالمراسلات وأتحفه بالصلات المترادفات وشرع شيخنا المرحوم في جمع المطلوب بمعونة الفقير، ولم يذكر السبب الحامل على ذلك وجمع الحقير أيضاً ما تيسر جمعه وذهبت به يوماً وعنده بعض الشاميين فأطلعته عليه، فسر بذلك كثيراً، وطارحني وطارحته في نحو ذلك بسمع من المجالس ولم يلبث السيد إلا قليلاً وأجاب الداعي وتنوسي هذا الأمر شهوراً ووصل نعي السيد الى المترجم والصورة الواقعة، وكانت أوراق السيد مختوماً عليها فعند ذلك أرسل إلي كتاباً وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي يستدعي تحصيل ما جمعه السيد من أوراقه وضم ما جمعه الفقير وما تيسر ضمه أيضاً وإرساله، وانتقل المترجم بعد ذلك لأمور أوجبت رحلته منها الى حلب الشهباء كما ذكر لي ذلك في مراسلاته في سنة خمس ومائتين وألف وهناك عصفت رياح المنية بروضه الخصيب، وهصرت يد الردى يانع غصنه الرطيب فاحتضر وأحضر بأمر الملك المقتدر لازال جدثه روضة من رياض الجنان ولا برح مجرى لجداول الرحمة والرضوان، وذلك في أواخر صفر من هذه السنة وهو مقتبل الشبيبة، ولم يخلف بعده في الفضائل والمكارم مثله.
ومات الإمام المفوه من غذي بلبان الفضل وليداً وعد لبيد إذا قيس بفصاحته بلدياً من له في المعالي أرومة وفي مغارس الفضل جرثومة الحسين ابن النور على بن عبد الشكور الحنفي الطائفي الحريري الفقه والإنشاء، ويعرف بالمتقي من أولاد الشيخ علي المتقي مبوب الجامع الصغير من أكبر أصحاب الشيخ السيد عبد الله ميرغني ولد بالطائف وبها نشأ، وتكمل في الفنون العرفانية وتدرج في المواهب الإحسانية وأحبه السيد عبد الله وتعلق بأذياله وشرب من صفو الأوهام، وأخذ بالحرمين عن عدة علماء كرام وشارك في العلوم ونافس في المنطوق والمفهوم إلا أنه غلب عليه التصوف وعرف منه ما فيه الكمال والتصرف، وبينه وبين شيخنا العيدروس مودة أكيدة ومحبة عتيدة ومحاورات ومذاكرات وملاطفات ومصافاة، وقد ورد علينا مصر في سنة 1174 وسكن ببيت الشيخ محسن على الخليج، وكان يأتيه السيد العيدروس والسيد مرتضى وغيرهم فأعاد روض الأنس نضيراً وماء المصافاة نميراً ودخل الشام وحلب، وبها أخذ عن جماعة في أشياء منهم السيد إسمعيل امواهبي، فقد عده من شيوخه وأثنى عليه ودخل بلاد الروم وأنعم بالمروم وعاد الى الحرمين وقوض عن الأسفار الخيام.
ولليسد العيدروس قصيدة بائية أرسلها له وهي بليغة مطولة وغير ذلك مطارحات كثيرة، وللمترجم مؤلفات حسان وكلها على ذوق أهل العرفان منها المنظومة التي تعرف بالصلاتية عجيبة وشرحها مزجاً كأصلها على لسان القوم، ولما حج الشيخ التاودي بن سودة كتبها عنه ووصل بها المغرب ونوه بشأنها حتى كتبت منها عدة نسخ، ونوه بشأن صاحبها حتى عين له سلطان المغرب بصرة في كل سنة تصل إليه مع الركب والناس في المترجم مختلفون فمنهم من يصفه بالبراعة والكمال وأولئك الذين رأوا كلامه فبهرهم نظامه ومنهم من يصفه بالحلول عن ربقة الانقياد ويرميه بالحلول والاتحاد، وهو إن شاء الله تعالى مبرأ مما نسب إليه ولما اجتمع به العلامة محمد بن يعقوب بن الفاضل الشمشاري، ونزل في منزله، فكان أنيساً له في سائر أحواله، قال اختبرته حق الاختبار فلم أجد له إلا لساناً وهو مثار وبعد أشهر تبرم عن ملازمته، واتخذ له حجرة في الحرم وعزل نفسه عنه فالتزم وحكى لي من أموره أشياء غريبة، والمترجم معذور فإن ساداتنا المغاربة ليس لهم تحمل في سماع كلام مثل كلامه لأنهم ألفوا ظاهر الشريعة ولم يدخل على أذهانهم نوادر أهل العرفان ولا تسوروا حصونها المنيعة ولأهل الروم فيه اعتقاد جميل ومواهبهم تصل إليه في كل قليل وكان له ولد يسمى جعفراً ورد علينا مصر في سنة خمس وثمانين، وأقام معنا برهة يغدو إلينا ويبيت ويروح لزيارة بعض أحباب أبيه بمصر ويذهب معنا لبعض المنتزهات إذ ذاك ولم يزل حتى اخترمته المنية سامحه الله ولم يخلف بعده مثله.